الحمد لله الذي أمدّ أولياءه بقوة الصبر على الضراء، ونعمة الشكر على النعماء، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد سيد الأنبياء، وعلى أصحابه الطيبين الأصفياء وعلى ءاله البررة الأتقياء، أما
بعد: فقد جاء في الحديث الشريف: "والصبر ضياء". رواه مسلم. وقال عليه الصلاة
والسلام: "فمن يرد الله به خيرًا يُصِب منه" رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد
الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يُبتلى الرجلُ على حسبِ دينه".
وجاء في الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرم للأمة: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا
وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تُهون به علينا مصائب الدنيا". وقد
روى مسلم رحمه الله أن رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام قال: ما من عبد مؤمن أصيب
بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم اؤجرني في مصيبتي وأعقبني
خيرًا منها إلا فعل الله به ذلك" وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: "إذا ابتليت عبدي
بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" ومعنى حبيبتيه أي عينيه، أي إذا ابتلى الله العبد بأن أخذ منه
نعمة البصر فصار أعمى وصبر على هذا البلاء، فالله يعوضه جنة النعيم.
إن الصبر هو الصبر على طاعة الله تعالى والبلاء ومكاره الدنيا وعن المعاصي. فالرسول عليه
الصلاة والسلام يقول: "والصبر ضياء" ومعناه لا يزال صاحبه مستضيئًا مستمرًا على
الصواب، والصبر هو قهر النفس وحبسها على مكروه تتحمله أو لذيذ تفارقه، وأوصى سيدنا عمر
بن الخطاب برسالة إلى سيدنا أبي موسى الأشعري قائلاً له: عليك بالصبر، واعلم أن الصبر
صبران. أحدهما أفضل من الآخر، الصبر في المصيبات حَسَن، وأفضل منه الصبر عما حرّم الله
تعالى، وكان يقول رضي الله عنه في قوله {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم
المهتدون} نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين، يعني بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة
الهدى. وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية {إنا وجدناه صابرًا نِعمَ العبدُ إنه أواب} بكى
وقال: واعجباه! أعطى وأثنى، أي أن الله هو الذي أعطى الصبر وأثنى عليه.
والعارفون رزقوا الصبر بجميع أنواعه ومنه الصبر على أذى الناس. فهذا العارف بالله الولي
الكبير سهل التُستري رحمه الله كان له جار مجوسي وكان يوجّه الأذى من بيته إلى دار الشيخ سهل
التستري والشيخ يأخذ القذر ويطرحه. سنون مضت على هذه الحال وهو صابر، حتى حضرت
الشيخ الوفاة وذهب جاره ليحضر وفاته فقال له الشيخ سهل: "حوّل الأذى والقذر عن داري قد لا
يتحملك الورثة"، فقال: أنت تعاملني كل هذه المدة وأنت صابر عليّ. قال: نعم. فقال جاره:
ابسط يدك لأسلم فقال له الشيخ: قل لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتشهد شهادة الحق ثم مات
الشيخ رحمه الله. فانظر يا أخي إلى ثمرة الصبر، وإلى فضل الصبر، وإلى عظمة الصبر، فبصبره
سبّب للرجل الدخول في الإسلام، وكما قيل: من صبر ظفر. ومن الظفر العظيم أن يدخل إنسان في
الإسلام على يديك.
ومن عظيم الصبر ما حصل مع الرميصاء "أم سُليم" رحمها الله أنها قالت: توفي ابن لي وأبو
طلحة زوجي غائب. فقمت فسجيته في ناحية البيت، فقدم أبو طلحة، فقمت فهيأت له إفطاره، فجعل
يأكل، فقال: كيف الصبي؟ قلت: بأحسن حال بحمد الله ومنّة، فإنه لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه
الليلة. ثم تصنّعتُ له أحسن ما كنت أتصنَّع له قبل ذلك، حتى أصاب مني حاجته. ثم قلت: يا أبا
طلحة ألم تر ءال فلان استعاروا عارية ما يُستعار ـ فتمتعوا بها فلما طُلبت منهم شق عليهم، قال:
ما أنصفوا، فقالت: احتسب ابنك. قال: فغضب، ثم قال: تركتني حتى إذا تلطختُ (كناية عن
الجماع) ثم أخبرتني بابني، ثم انطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله في ليلتكما" قال: فحملت، فجاءت بولد هو عبد
الله بن أبي طلحة فرُزق أولادًا قرأوا القرءان منهم عشرة كملاً. فانظر يا أخي إلى جزاء وثمرة
ونتيجة الصبر، ولا تغفل عن قول القائل:
ألا بالصبر تبلغُ ما تريدُ * وبالتقوى يلين لك الحديد
وقال بعضهم: الصبر مرٌّ وثمرته حُلوة.
واعلم أن سيد الصابرين وسيد الشاكرين سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: إن عظم الجزاء مع
عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط.
فاصبر على ما ابتلاك الله به محتسبًا ولا تضيع الأجر والثواب بترك الصبر واحظ بحب الله تعالى
واسعد به ولا يلعب بك الشيطان بوساوسه المخزية وألاعيبه الهدامة التي بعدها الندامة. ثم إن البلاء
إذا نزل بالمؤمن والمؤمنة فصبرا كُفِّرت عنهما الخطايا والآثام لما ورد في الحديث الشريف: "ما
يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة" رواه
الترمذي.
واعلم أن كظم الغيظ يحتاج إلى صبر، فبكظم الغيظ يحصل المؤمن على نعيم عظيم في الجنة
ويحظى بالحور العين اللواتي خلقهن الله من الزعفران، والحور العين استقبلن الرسول صلى الله
عليه وسلم ليلة المعراج في الجنة فرحًا به واحترامًا له وحبًا له فقلن للرسول صلى الله عليه وسلم:
نحن خيرات حسان أزواج قومٍ كرام. فطوبى لمن كنَّ له فقد ورد في الحديث الشريف:"من كظم
غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره
من الحور العين ما شاء" رواه أبو داود.
\
\
منقوله
مع تحياتي