كنت نائماً جداً , نائماً لأقصى ما يوصل له النوم من هذيانات وكوابيس وأضغاث , وإذا بالمنبه " الأرعن " يقرع طبلة أذني بدقّاته الغبية ليعلمني عن مجيء الصبح ..!!
فتحت جفني المنسدل ببطء , وأول ما لاحظته عيناي هي النافذة : كانت ملوّنة باللون الأصفر الباهت ..
الأمر الذي ينذر بعاصفة رملية , فلا تصفرّ النافذة إلا تمهيداً للـ"عجاج" الآتي , ورحت أستجمع أوصالي الثقيلة , وأستحث قامتي الفارعة على المشي إلى الحمام لأغسل وجهي الذي امتلأ باللعاب المتجمّد عليه .
ولدى وقوفي أمام المرآة : شاهدت ذلك الوجه المألوف الذي أحوزه , كان مُتجهّماً وبائساً , ثارت فيه بعض الشعيرات التي تحتاج للإعدام السريع بالموس الحاد .
ولكن أجلت ذلك لحين انتهائي من تنظيف أسناني , ألصقت بعض المعجون في الفرشاة ووضعتها في فمي , وأعدت بصري إلى المرآة من جديد , وإذا بي أشاهد ذلك المخلوق المُزعج الذي يلمع جلده الذهبي فوق البلاطة الملساء في الحمّام , ويتحرّك في الجهة المقابلة لي ..!!
كان صرصاراً من نوع آخر , من ذلك النوع الذي " يتحدّى " و " يقتحم " و " يُهاجم " ولا يخشى في الحق لومة لائم .. صرصار انتحاري !
والأهم أنه كان صرصاراً ضخماً من نوعه , كان حجمه بخمسة أضعاف الصراصير العادية الصعلوكة , رميت عليه " الصابونة " وهرب , ثم عاد من جديد ليُطل بقرنيه الهائلين , حاولت ضربه بالحذاء ولكنه يتفادى الضربات برشاقة ومهارة وخفة مثلما يتفادى الماتادور الإسباني الثور الهائج ...!
فتحت صنبور الماء الحار وملأت الوعاء ورششته عليه ولكنه يقفز ويراوغ ولا تلمسه قطرة , قلت في نفسي : إن هذا الصرصار لا ينفع معه إلا استخدام أسلحة دمار شاملة , وكان بجانب البانيو علبة ديتول كبيرة , سكبتها على الأرضيّة , ولم تمض سوى دقائق قليلة حتى أعلنت نبأ استشهاد الصرصار العظيم .
كان يزحف زحفاً فوق البلاط الناعم , يسعل ويكح , يتقلب بمرارة , ويعلن استسلامه بسرعة لم أكن لأتوقعها , كان منهاراً تماماً, يسعل ويتكرر سعاله بصورة حزينة , فتسكن حركته الثائرة , وينتهي , وتزول حياته بلا أمل في رجوعها ..
ولكن الذي زاد من ذهولي , أنه ما أن مات , حتى جاءت مجموعة من الصراصير تهرول إليه وهي ترتدي الكمّامات الواقية , عددها حوالي خمسة صراصير , وسمعت أحدها يُنادي :
- يا زعيم البيّارات الكبير , يا من تذهب إليه كل شهقات الصراصير الحزينة , ارحم كبيرنا , العلامة الفهّامة صريصير مصرصر بن صريصر , وتغمّده بواسع رحمتك . هيا أيها الأصحاب , فلنأخذ جثمانه , ونقيم العزاء , في بيّارتنا الغرّاء , قبل أن يهجم علينا هذا الإنسي , ويبيدنا في ضربة واحدة بحذائه الضخم !
دعكت عيني من هول المُفاجأة , حتى الصراصير تحب بعضها البعض , وتخشى من الموت , وتترحّم على شُهدائها , وتقيم لهم الجنائز , إنها لجريمة كبرى بحق الصراصيرية أن أقتل هذا الصرصار الذي يبدو أنه من عليّة القوم , قلت لهذا الرهط المبارك من أقارب المرحوم :
- اسمعوني جيداً , لن أقتلكم ولن أُبيدكم , وإني لأحزن حزناً شديداً على وفاة قائدكم المبجل , ولكن اعذروني فقد انسكبت علبة الديتول بغير عمد , ومات على أثرها هذا الصرصار الكبير , وإنني على فقده لمهموم ومغموم , مثلكم وأشد !
اقتربت مني السيدة / صريصيرة , والتي تبيّن لي أنها حرم الراحل المصون , وأنشأت تقول ووجهها تحتله ملامح الأسى والضيق :
- ما دام الأمر كذلك , فلن نزعجك بعد اليوم , ولن نؤرق منامك , ولن نضطرك لاستئجار شركات مكافحة الصراصير , ولن نكبّدك الخسائر في شراء المُبيدات الحشرية التي تقتل أجهزتكم التنفسية قبل أن تقتلنا ! فعلى ما يبدو أنك بالفعل لم ترتكب أية جريمة...!!
كل ما في الأمر أن زوجي جاء في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ وهذا هو التعريف العلمي للصدفة ! ولكن دعني أسألك سؤالاً , لماذا تكرهوننا لهذا الحد ؟ أرجو أن تجيب على سؤالي بشكل كاف وواف وجامع ومانع , لأن هذه هي المرة الأولى التي تسنح فيها الفرصة لي لأن أخاطب أحد الإنسيّين , ويا ليتك تجيبني إجابة منطقية وعلمية وبرهانية تكثر فيها من الإطناب والاستطراد والاسترسال ولا بأس بشيء من السجع والمحسنات البديعية مع التقليل من الحشو والبهرج في اللفظ .
ما هذه الورطة التي تورطتها ؟ صرصارة , وتفهم في المنطق والبلاغة ؟
أخذت أفكر , ما الذي يجعلنا نكره الصراصير بهذا الشكل المتطرف , أهو شكلها القبيح ؟ ولكن هذا ليس عذراً فمن المؤكد أن الصراصير هي الأخرى ترانا بهيئة مزرية وقبيحة . أهي أضرارها الصحيّة ؟ ولكن هذا ليس مُبرراً أيضاً , فالكثير من الصينيين والتايلانديين يلتهمون الصراصير في موائد وولائم وهي عندهم بمثابة الوجبة المفضلة ولم تصبهم الأمراض حسبما أعلم .
عندما أوشكت على الاعتراف بأننا لا نملك سبباً مُقنعاً في كراهيتنا للصراصير , تقدّم إلي ابن الفقيد , وأخبرني :
- إنك تفكر طويلاً , ولكن لا تنبس بحرف , لأنك تعرف يقيناً أنه ما من سبب واحد يدعوكم , أيها الإنسيّون , إلى قتلنا بتلك الطرق الوحشية , تخيل أيها الإنسان , أن الصراصير تطاردكم بالمبيدات الكيميائية , وتسحقكم بالأحذية العملاقة , وتجبركم على العيش في البيّارات والمجاري القذرة , إن في ذلك لظلم ما بعده ظلم , وغبن ما بعده غبن , لقد أجبرتمونا , طوال تاريخنا , على الهرب والتسكع , حتى أن والدي الراحل , أصيب باكتئاب نفسي حاد , وكان متشائماً , ويقول لنا , إن جنس الصراصير مهدد بالفناء , لقد كافحنا طيلة الدهر لكي نوجد , وصدقني أيها الإنسي , إننا لا نعلم لماذا نكافح هذا الكفاح , ولا ندري ما خاتمة هذا الشقاء , فجميعنا , نكابد الأمرّين , نتناسل وننجب ونأتي بالمزيد من أفرادنا , ولا نعرف على وجه اليقين لماذا نأتي بهم , فنتورط نحن وإيّاهم , كلنا نوجد , وكلنا نعيش , ولكن أيضا كلنا نموت ونخوض في دوائر بلهاء عمياء لا مبدأ لها ولا انتهاء ..
قاطعته هذه المرة بنفسي مثلما قاطعني في المرة السابقة وصرحت مؤيداً له :
- نعم إن كلامك كله صحيح وهو مُثمّن عندي كل التثمين ولكن الفارق بيننا وبينكم , أنكم أكثر نبلاً منا , إنكم تعيشون في أقذر وأوسخ الأمكنة ولكنكم رغم ذلك تتعاونون فيما بينكم ولا توجد عندكم تلك الصراعات المخبورة عند بني الإنسان , فلم أسمع قط , بأن صرصاراً كريماً مثلك , قام برمي قنبلة ذرية على بيّارة آهلة بالصراصير , ولم أسمع قط , بأن صرصاراً طيباً كوالدك المرحوم , ذهب ليفجر نفسه وسط سوق مليء ببني جلدتكم , ولم يصل إلى مسامعي نبأ صرصار واحدٍ يعذب أخيه الصرصار بالأدوات الكهربائية أو عن طريق حقنه بالمخدرات والأمصال السامّة , إنكم بهذا المعنى أكثر منا أخلاقاً , ونبلاً , وشهامة !
قالت الكريمة / مصرصرة , وهي كما يتراءى لي , ابنة الفقيد الراحل :
- إنني غاضبة لهذا الذي يحدث عندكم , فإذا كنتم شديدي البطش تجاه بعضكم البعض , فلن أستغرب لماذا تبطشون بنا ! نحن كائنات جميلة وراقية ومهذبة إذا ما دقّقت في الأمر .. وأنتم على غاية التوحّش والبربرية إذا ما تحرّيت الإنصاف والحياد .. ولكن , أرى أن هذا الوجود له أسراره وعجائبه , فجميع الكائنات تخضع لكم حتى صرتم أسياداً للطبيعة ولا ينافسكم أحد في ذلك , ولكنكم في الوقت نفسه لا تستطيعون إخضاع أنفسكم لأحد , وهذا ما يجعلكم تتعاركون وتتطاحنون على أتفه الأسباب , إنكم بحاجة لفرد واحد , يحكمكم ويكون من غير بني الإنسان , ولو أن أبي كان حياً , لرشحته لمثل هذا الدور .
قالت السيد / صرصورصي , بعد أن فتل شنبه الطويل , وبعد أن عرّف نفسه بأنه صديق الفقيد الراحل :
- أنا أتفق تماماً مع الآنسة مصرصرة وأرى أن الفقيد الراحل كان يجب أن يتزعم هذا العالم , ولكن القدر لم يمهله للقيام بهذه المهمة الشجاعة , إنه رجل شجاع القلب , صافي السريرة , لطيف المعشر , قوي الشكيمة , مهيب الجانب , عالي الهمّة , سديد الحجّة , بليغ اللسان , واضح البيان , هيا أيها القوم , فلنأخذ جثمانه الطاهر , ولنرحل به بعيداً عن هذا المكان الذي لا يليق به . إن دموعي المنهمرة لا تريد أن تتوقف , وإني على فراق صديقي لحزين ومغموم .
اختفت الصراصير كلها من أمامي فجأة وهي تهرول حاملة جثمان الفقيد العزيز , ووقتئذٍ كانت يدي لا تزال تقبض على الفرشاة والمعجون الحامض يملأ فمي , فبصقته في المغسلة , وجففت وجهي بالمنشقة , وأنا أتساءل :
" ماذا لو كان الصرصار الراحل زعيماً لمنظمة الأمم المُتحدة في بادئ تأسيسها , الأكيد أنه لم يكن ليسمح باحتلال فلسطين , ولا اجتياح بيروت , ولا اغتصاب العراق , ولا تدمير أفغانستان , ولا انتهاب خيرات العالم الثالث بهذه الطريقة الجشعة . آه أيتها الأقدار الجائرة , يا زيوس الصامت ويا أهورمزدا الأخرس , ليتكما وضعتما هذا الصرصار الأمين في منصب السيادة والريادة على بني الإنسان , لعله ينقذكم من تخبطكم الذي أنتم فيه تعمهون , ولعل العرب ينهضون بعد طول سبات دام قروناً وقرون , إن هذا العالم بحاجة لمثل هذا الصرصار النبيل , بعقله الراجح , وأخلاقه النزيهة , وقلبه الطيب الذي لا يعرف الحقد ولا الضغينة " ..
ارتديت ملابس الجامعة بطريقة عشوائية , وذهبت إلى جامعتي مُسرعاً لئلا أتأخر على مواعيدي , وفي الطريق , وأثناء القيادة , دهست عشرين صرصاراً تحت عجلة سيارتي .. من شدّة الحزن والهَم