من المعلوم لكل متابع أن النصارى يستدلون على باطلهم بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ويدعمون ذلك بكلام ينقلونه من كتب أهل التفسير وعلماء الإسلام.
وليس في الشبهات التي يتكلمون بها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حول الإسلام فقط، بل صُلْبْ عقيدة النصرانية يستدلون عليه من كتاب الله.
فهم يقولون أن القرآن يقر بصَلْبِ المسيح، وهم يقولون أن القرآن يقر بعقيدة الفداء، وأن القرآن صريح في أن الله هو المسيح بن مريم.
ولا تعجب! هذا الكلام فيه متخصصون, وله كليات تدرسه، و (علماء) قد فقهوه -بزعمهم- وراحوا ينشرونه بين الناس.
كيف تتكون شبهات النصارى؟
وأريد تحت هذا العنوان أن أقدم طرحاً علمياً يستوعبه عامة القراء ممن يستهدفهم عباد الصليب، وكذا طرحاً يحترم عقول الأكاديميين ومن لهم اطلاع على شبهات النصارى، والله المستعان. ومن أراد مزيد بيان فليراسلني بما يشاء وجزاه الله خيراً.
تتكون شبهات النصارى بثلاث طرق رئيسية(1):
الأولى: بتر النصوص من سياقها العام ثم استخدام مقدمات عقلية أو عرفيه لتفسيرها(2).
الثانية: اعتماد الضعيف والشاذ من الحديث وأقوال العلماء، وتصديره للناس على أنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال علماء المسلمين.
والثالثة: الكذب الصريح، فمثلاً في ادعائهم أن القرآن ينطق بأن المسيح هو عين الله، تعالى ربنا وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
يستدلون على ذلك بقول الله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء:171]، يبترون النص هكذا!
يقولون كلمة الله وروح الله، تعني أنه هو عين الله أو ابنه المتجسد على حسب مذهبهم.
أرأيتم ؟!
بتروا النص ثم فسروه بما يحلوا لهم!!
ونحن نقول(3): إن القرآن صريح في أن المسيح عبد الله ورسوله، فبالنفي والاستثناء -وهي أقوى أساليب الحصر والقصر- جاء التعبير عن عبودية المسيح لله عز وجل في أكثر من آية في كتاب الله تعالى، قال الله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].
وقال الله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].
وعلى لسان المسيح جاء في القرآن: {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [آل عمران:51 ]، { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [مريم:36]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [الزخرف:64].
بل في نفس الآية التي يستدلون بجزء منها يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} [النساء:171]، والآية التي بعدها صريحة في هذا المعنى أيضاً، قال الله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} [النساء:172].
وإضافة الصفة إلى الله على نوعين، إن كانت هذه الصفة ذات منفصلة لها استقلالية فيكون (إضافتها إلى الله تتضمن كونها مخلوقه مملوكة لكن أُضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة، لا لكونها صفة) (4)، أي من باب التشريف والرّفعه مثل بيت الله الحرام، وسيف الله خالد بن الوليد، وأسد الله الحمزة بن عبد المطلب و (ناقة الله). فـ (روح الله) و (كلمة الله) لا تعني أبداً أنه جزء من الله.
و (الروح) أو (روح القدس) في القرآن الكريم تستعمل للدلالة على شخص جبريل عليه السلام. قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38]، وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر:15]، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102].
فالروح عندنا مَلَك -جبريل عليه السلام- وليس هو عين الله كما تزعمون أنتم!
ويتعلقون بقول الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
فمِنْ عند أنفسهم فسَّروا الروح بأنه جزء من الله، ثم قالوا جزء من الله حلَّ بمريم -عليها السلام- فخرج منها المسيح -عليه السلام-.
والأمر على عكس ذلك: فـ (روح الله) أو (الروح) هو جبريل عليه السلام، والفَرْجُ في الآية هو القميص(5)، نفخ جبريل عليه السلام في كمِّ درعها فأنجبت عبد الله عيسى بن مريم عليه السلام(6)؛ قدرة الله القدير.
فتدبر كيف يتعاملون مع النصوص ليخرجوا منها بباطلهم!
ومن أمثلة البتر للنصوص: قولهم أن الإسلام دين عنصرية وظلم لا يعرف العدل مع الآخر ويستدلون على ذلك بقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» ويسكتون عند هذا.
ولو أكملوا الحديث لبهتوا وما نطقوا : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ» (7).
أرأيت كيف تتكون شبهتهم ؟
والسؤال: من افتعل هذه الشبهة، ألم يقرأ الحديث كاملاً؟
لا بد أنه قرأه كاملاً، ولكن هي نفسية أتت فقط لترجع بكذبه تُضل بها قومها .فما وجدت إلا بتر النص.
والطريقة الثانية التي يفتعلون بها الشبهات: اعتماد الضعيف والشاذ من الحديث وأقوال العلماء، وتصديره للناس على أنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال علماء المسلمين.
ومن طرقهم افتعال الكذب الصريح نقل الضعيف والموضوع من كتب الحديث والتاريخ وكتب التفاسير.
فمن المعلوم أن كتب التاريخ -وخاصة ابن كثير- تأتي بالروايات الضعيفة وتضعّفها، وكذا تفعل كتب التفسير وكتب شرح الأحاديث.
وهم يأخذون هذه الروايات المحكوم عليها بأنها (منكرة) أو (غريبة جداً) أو (لا تصح) إلخ، ويقولون أن هذا موجود في كتب المسلمين الصحيحة، يقولون: نحن ننقل من كتبكم الصحيحة مثل بن كثير والطبري والقرطبي... الخ.
وكل ما يقولونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكاد تحت هذا البند، وهذا الأمر بيّن جداً فيما يأخذونه على زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة، وصفية وزينب بنت جحش وجويرية أمهات المؤمنين رضى الله عنهن.
ولست معنيّاً هنا بالرد على شبهاتهم، وهو أمر يسير جداً، وإنما ببيان كيف تتكون الشبهات.
لذا نحن ننصح كل من يسمع شبه من شبهات النصارى أن يفتش عن أمرين:
الأول: المصدر الذي تكونت منه الشبه. وحين يقال له أن هذا من بن كثير أو القرطبي أو الطبري إلخ، فلا بد أن يسأل سؤالاً آخر، وهو هل أقرَّ القرطبي ما تقول، أم ضعَّفه وردّه، فمجرد ورود القصة أو (الحديث) في كتب التفسير لا يعني أبداً أنها صحيح.
الثاني: الطريقة التي تكونت بها الشبهة، فهم يبترون ويفسرون من أم رأسهم، كما يحلو لهم!
------------ --------- --------- --------- --------- --------- --------- --------- -----
الهوامش:
(1) هذا ما انتهيت إليه من استقراء شبهات القوم.
(2) والحقيقة أن هذا مذهب عام عند كل أهل الباطل، وليس النصارى وحدهم.
(3) الرد على أي شبه للنصارى ولغير والنصارى- يأخذ مسلكين الأول: نقض الشبه ذاتها، والثاني: معارضة الشبهة بقول آخر من ذات المصدر الذي يستدل به. وهذا بحث اكتمل في ذهني وجاري تدوينه وجمع أمثلة أكثر له. وقد بدأت في ردي هذا بمعارضة الشبة ثم ثنيت بنقض الشبهة.
(4) مجموع الفتاوى 17/149 ط . دار الملك فهد للطباعة والنشر.
(5) هذا قول القرطبي ورجح أنه المراد في هذه الآية، وأحصنت فرجها أي منعت جبريل -عليه السلام- حين تمثل لها بشرا سويا من أن يقرب من كمِّ درعها ـ عليها السلام ـ ، وقيل أن المراد بالفرج هو حقيقة الفرج الذي بين الفخذين، وأيا كان المعنى فلا دليل فيه على ما يذهب إليه النصارى.
(6) راجع -إن شئت- تفسير القرطبي للآية 91 من سورة الأنبياء.
(7) الحديث في صحيح البخاري كتاب المظالم والغصب حديث رقم 2444، وعند أحمد 11511، 12606، والترمذي كتاب الفتن 21811، واللفظ من البخاري.
منقول من موقع طريق الاسلام