لم تكن زرافة محمد علي ( محمد علي باشا والي مصر ...) قد ولدت بعد حينما أصدر الوالي محمد علي مرسومه بأسرها لإهدائها لملك فرنسا؛ تحقيقا لطموح سياسي وراء تلك الهدية.. كان حتما أن يقتلوا أمها في مراعي السافانا في الجنوب، فبدون ذلك كان أسرها مستحيلا.. كانت ابنة شهرين وقتئذ.. قصيرة القامة باعتبار أن طولها لا يزيد عن قامة صياديها!!.. روَّضوها على تناول اللبن وقلوبهم ترتجف؛ إذ كانت حياتها - باعتبار أنها من ممتلكات الوالي- تساوي حياة رعاتها (حسن وعطير).. وكانت ضعيفة الشهية.. فقط خمسة وعشرون جالونا من اللبن يوميّا من ست بقرات حلوب صحبنها طيلة الرحلة..!!
في البدء حملوها على الجمال، ثم نقلوها إلى الخرطوم على مركب نيلي استقرت مستظلة بخيمة مفتوحة تنعم بالظل في حين يكتوي العبيد الأفارقة بلهيب الشمس.. بعدها مكثت ستة عشر شهرا في الخرطوم حتى تم نضجها، ثم ركبت النيل حتى وصلت الإسكندرية في ضيافة محمد علي شخصيا.
ومع حاشية مكونة من ثلاث أبقار حلائب وراعييها حسن وعطير بدأت رحلتها البحرية إلى فرنسا.. وباعتبارها سفيرا فوق العادة رفعت السفينة العلمين المصري والفرنسي، مع الكثير من عبارات الوداع والمراسم العسكرية. مع تعليمات مشددة للحفاظ على تلك الزرافة الثمينة.. وإذا كنا اليوم نشاهد الزراف في كل حدائق الحيوان حول العالم فإن الأمر لم يكن كذلك بالتأكيد في بداية القرن التاسع عشر.. كان اصطيادها بقامتها الفارعة ومن ثَم نقلها كل هذه المسافات الشاسعة بوسائل نقل بدائية - عملا شبه مستحيل في هذا الوقت.
الحسناء في فرنسا
وصلت ميناء مرسيليا بفرنسا يوم 31 أكتوبر عام 1826، حيث كان الحاكم في انتظارها.. اقتيدت البقرات أولا عبر الشوارع والحشود المنتظرة حتى ساحة القصر.. وفي المساء - على خلفية من أضواء المصابيح الواهنة - غادرت سفينتها مع حسن وعطير تحت حراسة مشددة؛ لتحل ضيفا فوق العادة عند حاكم مرسيليا الذي كتب إلى وزير الداخلية يصفها بأنها المصرية الجميلة، الأنثى بمعنى الكلمة، والكنز الثمين.
خلبت لبّ الجميع بسحر عينيها الواسعتين وخجلها الذي كان يمنعها من شرب اللبن أمام الغرباء.. برغم ذلك كانت تسمح لهم بالاقتراب فيما عدا أنها توجل من الضوضاء ولا تحب أن يلمسها أحد.. لكنها حين تطلق العنان لنفسها في لحظة مرح تعدو ساحبة معها حراسها الأشداء.
ولطباعها بالغة الرقة ومشاعرها شديدة الخصوصية فقد أضفى ودّها للبشر سحرا فوق سحرها.. وتبدت مرارة غربتها في اهتمامها الودود -غير المتبادل للأسف- مع الحيوانات الأخرى: الخيول تخافها والبقرات الحلوب لا تبالي بها!!..
ومع تحسن الطقس بدأ التفكير في نقلها إلى باريس، حيث ينتظرها الملك بفارغ الصبر في صحبة سان هيلير، أهم علماء أوروبا في القرن التاسع عشر، والذي أمر بتفصيل معطف واق من المطر من المشمع المطرز بشريط أسود على كل الأطراف. وقام بإعداد أحذية طويلة لها خوفا من تآكل حوافرها خلال تلك الرحلة التي تبلغ خمسمائة وخمسين ميلا. واتخذت السلطات تدابير أمنية احترازية خوفا من تلك (الصدمة) التي ستصيب -حتما- حيوانات الجر في الطريق عند رؤية الكائن الضخم الوديع.. استدعيت تعزيزات من الدرك لحراسة القافلة كل في منطقته.. وطلب منهم الاستعداد ببقرات حلوب في حالة تأهب مع توفير إسطبلات بأسقف يصل ارتفاعها إلى ثلاثة عشر قدما في القرى التي يحتمل أن تتوقف فيها الزرافة.
لمن تدق الأجراس؟
كانت الزرافة تختال في معطفها الأنيق بينما تقرع الكنائس أجراسها في الطريق.. وتولى جنود الدرك تنحية العربات عن الطريق.. وأثناء الاستراحة في مدينة إيكس كشف سان - هيلير معطفها على سبيل الاستعراض. بعدها واصلت الزرافة رحلتها مخترقة غابات الصنوبر وبساتين الكرز فيما تنشر زهور السوسن عبقها، بينما يتدفق الأشخاص على طول الطريق لمشاهدة الأعجوبة.. في باريس كان الملك حزينا؛ لأنه سيكون آخر شخص في فرنسا يشاهدها.. وأخيرا انتهت الرحلة التي استغرقت أكثر من عامين، وكان الملك في قصر يبعد عن باريس تسعة أميال، وأراد الذهاب على الفور لرؤية الزرافة، لكن زوجته القاسية أصرت أن يظل في قصره؛ لأن تلك الزرافة ما هي إلا هدية من والٍ أقل رتبة ومنزلة.
وكما يحدث دائما انتصرت إرادة الزوجة وصدر القرار لسان هيلير باصطحاب الزرافة فورا حتى مقر الملك المتلهف الذي أبدى رغبة ملكية في رؤيتها وهي تعدو (!!!).. ثم عادت الزرافة بسلام إلى باريس يتبعها حشد كبير من الفضوليين وقد صارت موضة العصر.. أطلقت القرى اسمها على الشوارع والميادين تخليدا لمرورها. وتحولت هي إلى مادة للأغاني والاستعراضات المسرحية، واعتاد الأطفال الذين يلعبون في حدائق باريس شراء كعك الزرافة، أما البنات فقد صففن شعورهن على شكل تسريحة الزرافة.. وكان الشعر عاليا لدرجة اضطرارهن للجلوس على أرضية المركبة!!. كما أعلنت صحيفة النساء والموضة عن عقد الزرافة.. وارتدى الرجال قبعات وأربطة عنق زرافية الشكل، واحتوت مجلة اليوم على إرشادات لطريقة ربط كرافتة الزرافة!!
الخلاصة أن الولع بها استشرى في كل شيء: المنسوجات، ورق الحائط، الصابون، وحتى تشذيب الأشجار!!
***********************************************
منقول من : ويكيبيديا ... الموسوعة الحرة .
***********************************************
***********************************************
....... شو رأيكم ؟ ......
-----------------